اضمحلال الفكر الموسيقي العربي

منقول عن الموسيقى العربية
قد يعجب المرء من المخزون المعرفي الممتد الذي شكله الفكر الموسيقي العربي القديم بما أغنى به الحياة الموسيقية العربية بنظريات وعلوم وارتقاءات مهمة على مستوى الصوت والآلة هذا المخزون المهم الذي بقي نبعه فياضا ومتدفقا آلاف السنين عبر مدارس موسيقية عديدة أسس أركانها وبنيانها الشامخ أعلام رواد ومفكرون كبار خاصة في ميدان الفلسفة العربية القديمة, التي قدمت ذخيرة معرفية شاملة في فنون الموسيقا العربية
بما حقق آنذاك نهضة رفيعة امتد اشعاعها لاحقا إلى كافة موسيقات الشعوب وتحديدا في بلاد الأندلس وأوروبا التي ترجمت الأبحاث العربية الرائدة واستفادت من علومها ونظرياتها التي ترسخت بعيد الترجمات الوافية للأبحاث الموسيقية الاغريقية تلك الابحاث المهمة التي استفاد منها الموسيقي المتفرد الذي اغتنى بأدوات وعلوم دخلت قلب هذا النظام كنتيجة طبيعية لارتحال هذا الموسيقي نحو أفق وفضاءات موسيقية مجاورة أعطته بكل تأكيد دافعا قويا كي يطور أدواته ومفرداته التي ازدانت ثراء واشراقا مع دخول المصطلحات والرموز والآلات الفارسية إلى قلب الحياة الموسيقية العربية نتيجة للفتوحات الاسلامية الممتدة التي طالت كثيراً من البلدان تعرف الموسيقي العربي إلى نظامها الموسيقي مما فتح له آفاقاً جديدة على مستوى البحث والصناعة العملية التي نرى بواكيرها يانعة ومثمرة في العصرين الأموي والعباسي بما حقق (ثورة) موسيقية شاملة خاصة بعد ارتحال الموسيقى العربية (كعلم وفن) إلى مدارات العلوم الرياضية المشهورة (الحساب والهندسة والفلك) بما حقق ورسخ هذه المدارس الإبداعية الآنفة الذكر وبما أفضى إلى ارتقاءات مهمة على مستوى تحديث الفكر الموسيقي العربي الذي قيض له أعلام ومفكرون كبار أثروا سفر هذا الفن بعلوم ونظريات وتجارب علمية رائدة ومبتكرة (أسماء: الكندي- الفارابي- ابن سينا- الأرموي- جماعة إخوان الصفا- يحيى بن المنجم- صفي الدين الأرموي- زرياب وآخرون عملوا جاهدين على تحميل هذا الفن بأدوات جمالية وتعبيرية دخلت لأول مرة قلب ونسيج هذه الحياة بفضل الفكر الموسيقي الوقاد الذي حمله هؤلاء الرواد الذين كتبوا علامات مضيئة وعطاءات ممتدة من العلم والمعرفة الموسوعية التي كانت سمة غالبة لهؤلاء المبدعين وهو ما منح الموسيقا العربية القديمة طاقات ومناخات جديدة بعيدا عن السمة الغالبة في تلك العصور ونقصد المناخات الطربية الممتدة على كافة الأرض العربية والتي نجد تفاصيلها ودقائقها المثيرة في كثير من صفحات وتاريخ هذا الفن... وبالرغم من سيطرة الحس النظري الطربي على كافة المشاهد الموسيقية العربية القديمة إلا أننا نعثر في الضفة المقابلة على إبداعات سامقة على مستوى العلم والنظرية وتصنيف الآلة والإبداعات الآلية في كثير من تفاصيل وأوراق هؤلاء الرواد الذين قدموا خدمات جليلة ومثمرة، للفكر الموسيقي العربي وللحياة الموسيقية العربية عموما خاصة في مجالات البعد الأخلاقي والتربوي بما أفضى إلى دخول هذا الفن ميدان العلاج النفسي الذي كان للعرب فيه دور ريادي مهم وعظيم وهو ما تنبه إليه مبكرا العديد من الفلاسفة العظام بدءا من الفيلسوف العربي الكبير (الكندي ومن ثم الفيلسوف الفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا وكثير من الأسماء المهمة الذين حاولوا تنظيم هذا الفن وتحميله على الدوام بمقولات جمالية وقيم تعبيرية تفضي إلى دور واقعي يسير في هذا الفن إلى الدور الموسوم والمنشود في التعبير بعمق وصدق عن الإنسان والكون ككل.‏
وبالرغم من كل هذا الإرث الموسيقي العظيم الذي قد لا يدانيه أو يقاربه أي إرث موسيقي آخر نتساءل وبمرارة: لماذا كل هذا الاجحاف والعقوق بحق هذا الإرث ولماذا هناك انقطاع رهيب ما بين هذا الموروث الغني وبين النتاجات المعاصرة؟؟ إنه سؤال الأسئلة الذي قد لا نجد أو نعثر على جواب عليه بالرغم من الجهود المخلصة التي قام بها العديد من اعلام البحث الموسيقي العربي على فترات متفرقة في سبيل إنجاز وإعادة إحياء حقيقية لهذا الموروث في اللغة الموسيقية المعاصرة لكن ذلك بدا وكأنه خارج من مناخ آخر مغاير تغيرت وتبدلت فيه الظروف والقناعات كما تغيرت الرؤى والأولويات الملحاحة فأصبح هاجس الموسيقي العربي اليوم أن يعبر عن عصره بطريقته الخاصة بما يفرض عليه أن ينقطع بشكل تام وأبدي عن موروثه وبالتالي عن هويته وأصالته في سبيل أن يرضي بعضا من سماسرة وتجار أصبحوا مع الأسف قيمين على ذائقتنا بما يملكون من مال ووسائل إعلام واتصالات وأمور أخرى!! أصبحت عماد النتاج الموسيقي العربي المعاصر الذي غابت معها تقنيات التلحين من صوت وآلة وروح الارتجال التي كانت سائدة مئات السنين وقدمت منة خلالها أعمال عظيمة ستبقى خالدة خلود الزمن.‏‏‏
إن اضمحلال الفكر الموسيقي العربي في النتاج الموسيقي المعاصر سببه الرئيسي هذا الانقطاع والابتعاد عن قراءة هذا الموروث الفكري العظيم قراءة روحية (جوانية) تفضي إلى تقديم حلول موسيقية جديدة بعيدا عن روح الاستهلاك والتبعية والغربنة التي (عولمت) موسيقانا لتصبح بلا هوية أو لغة خاصة تميزها عن اللون الموسيقي الواحد الذي بات يسيطر على كافة النتاجات الموسيقية في العالم بعد أن توفرت التقانات والوسائط المتعددة التي سهلت الطريق نحو تبني هذا اللون الوحيد الذي لم يقدم حسب علمنا إلا نتاجات هزيلة كسيحة مريضة لا رائحة لها ولا طعم اللهم إلا التوزيعات البراقة (والاكسسوارات) الخادعة التي لم تستطع أن تؤسس نهضة موسيقية عربية جديدة عمادها الحداثة العقلانية المبنية على جذور راسخة وعلى مفردات مغايرة تثري الحياة الموسيقية لا أن تلوثها بأوبئة باتت تشكل معضلة حقيقية في غياب حقيقي للفكر الموسيقي العربي المعاصر الذي لم يستطع أن يجاري الفكر القديم أو أن يتواصل معه بروحية وحميمية كما يحدث بشكل طبيعي في كثير من الموسيقات المجاورة هذه الموسيقات بات الموسيقي العربي اليوم يقتبس أو ينتحل منها ألحان وتيمات وآلات وينسبها إلى نفسه بكل صفاقة دون أي وازع أخلاقي في دليل مباشر وقوي على عقم وخواء الروح الموسيقية التي يحملها.‏‏‏
إنه زمن النكوص والعقوق في موسيقانا العربية المعاصرة كنتيجة منطقية (لوفاء) هؤلاء السماسرة لدورهم الخفي في تغييب أي منجز إبداعي أو مشهد أصيل في الحياة الموسيقية العربية حيث العملة الرديئة تسيطر على مقدرات هذا الفن وحيث يغيب الفكر الموسيقي العربي مسافرا في رحلة طويلة مما يدل على أزمة اخلاقية وحضارية ممتدة تعيشها الثقافة العربية عموما بما يؤثر بشكل جلي على مفردات الهوية الإبداعية للموسيقى العربية ومنجزها الأصيل الذي لا ينسى.


المشايخ ودورهم الكبير في تطوير الموسيقى العربية

المشايخ ودورهم الكبير في تطوير الموسيقى العربية
كان ترتيل القرآن الكريم  وتنوع الأساليب التي شاعت على أيدي رواده فيما عرف بالتجويد أو القراءات، والذي أصبح علما له قواعده وأصوله، بداية لنشوء مدارس الانشاد الديني ، ثم رافد من روافد الموسيقى العربية. أمد " العالم الاسلامي "  في جميع العصور بنوابغ الموسيقى العربية في فروعها المختلفة : التأليف ، والتلحين ، والغناء. وقد كانت بلاغة القرآن الكريم ، وجمال لفظه وايقاع جمله معجزة، وقف أساطين العرب أمامها عاجزين مندهشين.
لذا فانه يمكن القول أن ترتيل القرآن وتجويده نوع من الالقاء الغنائي. ومن يستمع الى المرتلين المجيدين يكتشف تفهمهم للمقامات الموسيقية واستعانتهم بها في أدائهم.
معجزة الموسيقى الداخلية في القرآن الكريم
ان في القرآن ايقاعا موسيقيا متعدد الأنواع، يتناسق مع الجو، ويؤدي وظيفة أساسية في البيان، اضافة الى جمعه بين مزايا النثر والشعر من هذه الناحية .
وقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة ، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة.
ان فى القرآن الكريم نوعا من الموسيقى الداخلية يلحظ ولا يشرح. واضح في نسيج اللفظة المفردة، وتركيب الجملة الواحدة ، ويدرك بحاسة خفية وهبة الهية .
وأحكام التجويد مطبقة على جميع الألفاظ القرآنية، من ناحية تركيبها للفظ مدا وغنا
نشأة مدرسة المشايخ في مصر الحديثة
كانت المدرسة التقليدية لتعليم الموسيقى في مصر هي مدرسة المشايخ الذين يتلون القرآن، ومنها يتعلمون المقامات، ومنها أيضا يتعلمون القاء القصائد والموشحات وارتجال المواويل الدينية الخاصة بالمدائح النبوية.
والنشأة الدينية هي العامل الأساسي وراء تمتع المغنين من الجنسين بالاجادة في نطق اللغة العربية أو التلوين الصوتي.
ومن أشهر من ظهر من هؤلاء المشايخ في القرن التاسع عشر : الشيخ اسماعيل سكر ـ الشيخ حسن جابر ـ الشيخ أبو العلا محمد ـ الشيخ ابراهيم الفران ـ الشيخ علي محمود ـ الشيخ يوسف المنيلاوي ـ الذي توفي سنة 1901، والذي كانت شهرته لا تقل عن شهرة محمد عبد الوهاب في أيامنا.
لم يكتف الشيخ المنيلاوي بأداء الأغاني الدينية ، بل أخذ يغني أغان عاطفية اختارها من بعض قصائد الغزل المعروفة في الشعرالعربي القديم .. وظل حتى آخر يوم في حياته يرتدي زي المشايخ.
الشيخ ابو خليل القباني ومعاناته الحقيقة في ولادة المسرح الغنائي العربي
يعتبر مولد المسرح الغنائي العربي الحقيقي في مصر على يد الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي (1842 ـ 1903). وكان الشيخ أبو خليل القباني شاعرا وموسيقيا وأديبا وممثلا.
لم يرق للناس في سوريا ما قدمه الشيخ أبو خليل القباني من مسرحيات .. فسافر القباني الى الاسكندرية، وقدم على مسرح زيزينيا وقهوة الدانوب عدة مسرحيات منها: ناكر الجميل ـ الافريقية ـ عنترة العبسي ـ عرابى باشا ـ هارون الرشيد ـ عفيفة ـ جميل وجميلة ـ السلطان حسن ـ الشاه محمود وغيرها ..
وكانت رواياته مستوحاة من التاريخ العربي الاسلامي، وقصص ألف ليلة وليلة. وكانت تتميز بعنصر الرقص الايقاعي .. وخاصة رقص السماح الذي يقوم على غناء الموشحات. وكان يتناوب الغناء  بين فصول الرواية التي تقدمها فرقتا عبده الحامولي وألمظ.
الشيخ سلامة حجازي من قراءة الاذكار  والاذان الى تجليات المسرح الغنائي
وهناك رائد اخر كبير من رواد المسرح المسرح العربى هو الشيخ سلامة حجازي (1852 ـ 1917) الذي تربع على عرش الغناء بعد وفاة عبده الحامولي عام 1901.
اشترك الشيخ سلامة حجازي مع المقرئين والمنشدين في الأذكار.  وكان دوره مساندة المنشدين في تأدية الآهات الممتدة أو أداء بعض الأصوات الحادة.  وعندما بلغ الحادية عشرة من عمره أسند اليه افتتاح حلقات الذكر بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم. ثم عمل مؤذنا في مسجد الأباصيري.  وكان الناس يترقبون ساعة الآذان ليستمعون الى هذا الصوت الساحر.
والى جانب عمل الشيخ سلامة حجازي كمؤذن، كون تختا موسيقيا لاحياء الليالي في القرى المجاورة. وكان يؤدي الموشحات وأدوار الشيخ عبد الرحيم المسلوب، وعبده الحامولي، ومحمد عثمان.  
أحب الشيخ سلامة حجازي المسرح الغنائي، واندمج في العمل به. فبدأ يظهر في أكثر من رواية :مي وهوارس ـ عايدة ـ المظلوم ـ هارون الرشيد ـ وغيرها . ثم كون فرقة خاصة به، وعمل بتياترو "سانتي" بحديقة الأزبكية حيث قدم بعض رواياته مثل: صلاح الدين ـ اليتيمتان ـ شهداء الغرام.
سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد رفعت شيوخ آخرون ينحازون الى الغناء
ومن الظواهر الهامة في تاريخ الغناء العربي الشيخ سيد درويش الذي ظهر في بداية القرن الواحد والعشرين.
بدا الشيخ سيد درويش حياته شيخا، كان يقلد مقرئا مشهورا بالاسكندرية هو الشيخ اسماعيل سكر.
وتحول الشيخ سيد درويش من الغناء الديني الى الغناء الدنيوي. واستمرت الناس تناديه بالشيخ سيد حتى بعد أن ارتدي الزي الافرنجي (البدلة).
التزمت مدرسة سيد درويش بأصول التجويد وأحكام اللغة العربية من مد مقاطعها وقصرها. وفي الضغط واللين على بعضها. كذلك الاهتمام بمخارج الألفاظ بأحرفها الحلقية والمفحمة.
والشيخ زكريا أحمد من المشايخ  الذين لعبوا دورا هاما في الفن. بدأ حياته أيضا بداية دينية، فتعلم القرآن الكريم، وعمل مقرئا، ثم مغنيا للموشحات الدينية، ثم اتجه للمسرح الغنائي وتلحين الأغاني لكبار المطربين والمطربات.  ومن أروع ألحانه ماغنته سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
وهناك الشيخ محمد رفعت المقرىء الشهير. كان الشيخ محمد رفعت يتمتع بصوت جميل يعتبر من أجمل الأصوات التي عرفها التاريخ. استطاع أن ينهض بفن قراءة القرآن الكريم الى القمة. يقول رجاء النقاش فى كتابه "كلمات فى الفن":
" .. من الحوادث المعروفة عن الشيخ محمد رفعت أن "حبشي جرجس" صاحب أول محطة اذاعة أهلية في مصر .. استطاع أن يقنع الشيخ رفعت بأن يغني في اذاعته دون أن يعلن عن اسمه في الميكروفون. وغني الشيخ رفعت بالفعل قصيدة الشيخ أبو العلا محمد" وحقك انت المنى والطلب "وقد أثار صوت الشيخ رفعت المستمعين، فانهالت الرسائل على المحطة الأهلية تطالبها باعلان اسم هذا المطرب المجهول، وتقديم أغانيه باستمرار.  ولكن الشيخ رفعت رفض رفضا قاطعا أن يكرر المحاولة .. ولم يقم باي عمل آخر غير قراءة القرآن الكريم".

أهمية الموسيقى في التربية عن ابن رشد

أهمية الموسيقى في التربية عند ابن رشد

. 

نقلاً عن المفكر المغربي ابراهيم بورشاش
تحتل الموسيقى الترتيب الخامس في سلم العلوم الرياضية، فلها أهمية قصوى في التربية عند ابن رشد إذ هي "عشق للحسن بالذات" ولذلك "لا يضاهي عشقـهـا عند أهلها لذة من اللذات". وابن رشد يجاري أفلاطون في الحديث عن الموسيقى وأهميتها رغم أنه من الفلاسفة القلائل الذين لم يتركوا شيئا في التأليف الموسيقى. في حين نجد الكندي يترك مؤلفات موسيقية منها "رسالة الكندي في خبر صناعة التأليف"، ويذكر الكندي في هذا الكتاب أنه ألف كتابين في الموسيقى كتابه هذا، وكتاب آخر سماه "كتابنا الأعظم في التأليف" الذي ألفه كما يقول "بالقول المرسل الذي يجب أن يقال فيه بتقصي البرهان". ونجد الفارابي يكتب "الموسيقى الكبير"  شهادة على تضلعه الموسيقي علما ومزاولة، "فكان ذلك أمكن له في تعريف المبادئ والأصول ودقائق الصناعة" كما يقول محقق الكتاب. وهو الكتاب الذي تتلمذ عليه ابن باجة الذي صرح أنه زاول صناعة الموسيقى حتى بلغ فيها مبلغا رضيه لنفسه وكان يفخر بأنه يضرب على العود رغم أنه على ما يبدو لم يخلف أثرا موسيقيا. كما نجد ابن سينا الذي خبر الموسيقى يؤلف فيها رسالة يعالج فيها "الكليات دون الجزئيات، معطيا أبعاد الوتر وتنوع النغمات في السلم الموسيقى بأبحاث رياضية بحتة".
يمكن القول إن ابن رشد في حديثه عن الموسيقى تحاشى الجدل الدائر في المجتمع الإسلامي حول الموسيقى والسماع تحليلا أو تحريما وثمن رأسا أهمية الموسيقى والألحان والغناء في تربية النشء وتربية الفيلسوف، ولعل مرد هذا الموقف الرشدي أن يكون امتلأ بمواقف الغزالي الذي دافع في الإحياء عن السماع، وموقف أبي بكر بن العربي الذي دافع عن الموسيقى دفاعا حارا، وموقف ابن حزم كذلك. لعله لم يلتفت إلى المواقف المضادة للموسيقى لأنه يجد لها العذر، كما وجده لها الفارابي من قبله في كتابه في الموسيقى عندما أرجع المواقف السلبية من الموسيقى إلى الابتذال الذي وقعت فيه، وكاد أن يعذر الشرائع في تحريمها، وأنشأ كتابه من أجل تصحيح النظر إلى الموسيقى. وكذلك صاحب كتاب ""كمال أدب الغناء" الحسن بن أحمد علي الكاتبالذي رد الانصراف عن الموسيقى إلى إفراطها في الهزل. ولعل لهذا السبب نفسه كان ابن رشد يدعو إلى رفع مستوى الموسيقى نغما وإيقاعا وقولا ولذا نهى عن اعتماد كثير من أشعار العرب.
فكيف تفعل الموسيقى فعلها في تربية النشء عند ابن رشد؟
 الارتباط بين صناعة الموسيقى والصناعة المدنية أو العلم المدني درس من الدروس يقدمه ابن رشد متابعا في ذلك أفلاطون، وهو الدرس الذي عرج عليه الفارابي في كتابه "الموسيقي الكبير"؛ فبعد أن ذكر هذا الأخير أهمية الأقاويل الشعرية وأثرها الإيجابي في الحياة المدنية وأفصح عما يمكن أن تفعله الموسيقى في الإنسان متى تلبست بالأقاويل الشعرية، أحال إلى المعرفة المنطقية فهم أصناف الأقاويل الشعرية والأشياء التي تلتئم منها ومن أين تصنع، كما أحال إلى الصناعة المدنية معرفة منفعة كل صنف من أصناف الأقاويل الشعرية في الأمور الإنسانية. مما يؤكد الارتباط العميق بين الشعر والموسيقى من جهة وبين العلم السياسي من جهة أخرى في حس الفارابي متابعا في ذلك أفلاطون.
 تدخل الموسيقى في التربية إذن باعتبارها أداة يتوسل بها إلى حمل النشء على العمل بالفضائل، بل إن الموسيقى تحسن أخلاق الرُضع في المهد، فكره الموسيقي هو بداية الانحراف في المدينة. وبقدر الابتعاد عن الموسيقى تفتقد الفضيلة. لذا يدعو ابن رشد إلى استعمال الألحان مع الأطفال وهم أبعد عن سن التمييز. إذ أن هناك طريقين للتربية؛ طريق الأقاويل الإقناعية والانفعالية، وطريق العقاب. والموسيقى ألصق بالطريق الأول الذي "يجري من بين طرق التعليم مجرى الطبع". والنساء، عند ابن رشد، أكثر حذقا من الرجال في فن الموسيقى العملية، إذ الألحان تبلغ كمالها إذا أنشأها الرجال وعملتها النساء.
 أكد أفلاطون في الجمهورية كثيرا أهمية الموسيقى في غرس حب القانون في النفوس، وفي تيسيرها للعقل لإدراك الفضائل، وأكد على أنها تؤدي في النهاية إلى حب الجمال، ولذا سينهى عن الابتداع في الموسيقى لأن في ذلك إفسادا للمجتمع وهو ما سيتابعه فيه ابن رشد.
 إن "الموسيقى [عند ابن رشد] هي هذه الأقاويل المحكية التي يرافقها اللحن والتي يحصل بها لأهل المدينة تهذيبهم، وهذه الأقاويل هي أقاويل شعرية يرافقها اللحن لتكون هذه الأقاويل أقوى أثرا وأكثر تحريكا للنفوس فتؤدي الموسيقى بذلك خدمة للشعر ينفذ من خلالها إلى النفوس ليفعل فيها فعله من التهذيب، وقديما جعل الفارابي الصناعة الشعرية رئيسة الهيئة الموسيقية وأن غاية هذه الهيئة إنما تطلب لغاية تلك الصناعة الشعرية، مما جعله يؤكد في مناسبات العلاقة الوثيقة التي تجمع صناعة الموسيقى بصناعة البلاغة وصناعة الشعر.
 ومن هنا يجب تجنيب الموسيقى الإسفاف فَتُصرف عنها أشعار الغزل، بل كل الأقاويل المحركة إلى اللذات والتي تحث على الكسب وجمع المال. ولهذا السبب نجد ابن رشد يحذر من أشعار العرب لأنها مليئة بالسقط من الأقاويل التي لا تصلح لتربية الحفظة كما يحذر من الأنغام المائعة والمعبرة عن الحزن والخوف داعيا من حيث القول الشعري إلى اختيار الأقاويل المحفزة للصدق المحركة للشجاعة وصواب الرأي والتقوى منبها إلى ضرورة مراقبة الشعراء حتى يتجنبوا محاكاة ما هو خسيس من الأشياء. محذرا "من إحداث أي بدعة في الموسيقى" لأن بذلك ينتقل "الضرر بسهولة إلى المدينة كلها من غير أن يحس بذلك، ولا يبعد أن يتمكن من النفوس شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى إفساد الشرائع والنواميس"، ففساد الموسيقى هو فساد للنفوس والشرائع إذن.
أما من حيث الإنشاد الموسيقى الذي يتركب من ثلاثة عناصر؛ إيقاع ولحن وقول جار مع اللحن، فإن ابن رشد من حيث الإيقاعات يدعو إلى البحث، في الأندلس، عن الإيقاعات التي تحض على رباطة الجأش أو تميل بالنفس إلى السكينة لأهميتها في التربية كما يحض على التحبيب في الألحان المحركة إلى الشجاعة والفضائل الهادئة، أما القول الجاري مع اللحن وهو القول الشعري فيريده، كما مر بنا، قولا بعيدا عن الإسفاف، لتتكامل عناصر الإنشاد الموسيقى لأن "الألحان الكاملة إنما توجد بالتصويت الإنساني"، وتصبح الموسيقى، كما يريدها ابن رشد، عشقا للحسن بالذات ومرقى من مراقي سلم الفضائل لأن فساد الموسيقى هو فساد للمدينة بأجمعها؛
 لقد أضاء الفارابي بعضا من هذا المعنى عندما أكد أن كثيرا من الأخلاق تابعة للانفعالات النفسية وللخيالات الواقعة فيها، ومن هنا صارت الألحان الكاملة ذات نفع كبير في إفادة الأخلاق وفي حمل السامعين على التلبس بالأفعال المطلوبة منهم وعلى اقتناء سائر الخيرات الإنسانية مثل الحكمة والعلوم، وعلى تقبل القول الشعري الهادف ما دام اللحن شيئا آخر زائدا في معنى الشعر وبهائه. كل هذا ما دامت الموسيقى مرتبطة بالأخلاق أما إذا فسدت الموسيقى فإنها تكون سببا في نشأة الشرور كما أكد ابن رشد.
 إن فساد الموسيقى عند ابن رشد سبب في تولد الشرور. وتفسد الموسيقى عندما تفقد بساطتها وتصبح موسيقى مركبة خالية من الأخلاق مما ينذر بظهور صناعة القضاء التي تخلو منها المدينة الفاضلة. إن صناعة القضاء تظهر عندما تفقد الموسيقى دورها في ترسيخ الفضائل وتهذيب النفوس، مما يشي بالأهمية التربوية للموسيقى في حس فقيهنا الفيلسوف ويبين خطرها الجمالي الكبير عندما تفسد أو يخلو منها كل منطق تربوي هادف.
 لكن الموسيقى لن تؤدي دورها الكامل إلا إذا كانت مصحوبة بالرياضة، فالموسيقى بدون رياضة "تحمل النفس على اللين، وتصيرها ضعيفة وفي غاية الخمول والدعة"، فالتوافق في نفس الفرد لا يتأتى إلا بهما معها؛ الرياضة تقوي النفس الغضبية والموسيقى تهذبها وتخضعها للعقل. بل إن الشجاعة لا ترسخ في النفس إلا بالموسيقى والرياضة معها.
كان ابن رشد حريصا على أن يسمع الأطفال كل ما هو خير، وانتصر للموسيقى انتصارا كبيرا لتربية الذوق السمعي حتى يستمرئ الألحان والإيقاعات والأقاويل التي ترسخ الفضائل. وإن كانت الموسيقى لا تفيد في التهيؤ للممارسة الفلسفية، أو بعبارة ابن رشد غير قادرة عن أن تكسب النشء "القوة … التي بها يستطيع الأنسان أن يكتسب معقولات العلوم النظرية"، ومن هنا حدودها التي تقف عندها.
 دفع حرص ابن رشد على صحة الأبدان والنفوس جميعا إلى الرفع من شأن الرياضة. كما دفعه حرصه على تربية الحاسة الجمالية عند الأطفال إلى أن يؤكد أنه على أطفال المدينة أن يروا كل ما هو جميل من أجل تربية عالية لحاسة البصر لأهميتها في ترسيخ الأفعال الجميلة من جميع الوجوه. من أجل ذلك ينتصر للتصوير ويحث المصورين، رسامين ونحاتين، على نحت الشخصيات الفاضلة وتجنب تصوير الشخصيات الواقعة في حمأة الرذائل للمساهمة في التربية الجمالية والأخلاقية لساكني المدينة وللأحداث منهم على الخصوص.
وأخيرا، انتصر ابن رشد للجمال وانتصر لكل ما هو جميل في تربية الإنسان؛ فالجميل عنده هو الذي يختار من أجل نفسه ويتميز بأنه ممدوح وخير ولذيذ، ومن هنا كانت الموسيقى باعتبارها عشقا للحسن بالذات شيئا جميلا وكان التصوير باعتباره تجسيدا للفضيلة شيئا جميلا، وكانت الفلسفة عنده أمرا جميلا.  ويمكن القول إن كل ما يفضي إلى الجمال، عند ابن رشد، فهو مطلوب في التربية الجمالية لناشئة المدن.  إن ابن رشد يريد لساكنة المدينة من الناشئة "يحاصرهم" الجمال من كل جانب، فيسمعوا ما هو خير، ويروا ما هو جميل، ويمارسوا بالتفكير والرياضة الجمال نفسه، "حتى ترسخ فيهم الأفعال الجميلة من جميع الوجوه" وتبدو هذه المحاصرة عندما يشبه ابن رشد المدينة بالسكنى في مكان سليم يعود بالنفع على ساكنته بما يتولد فيه من أرائج وخمائل وغيرها.



دورة تطوير صوت - غناء وصولفيج

لأول مرة في المنطقة 
معلمون مختصون ذوو خبرة كبيرة في تطوير الصوت
مدرب للغناء العربي ومدربة للغناء الغربي

أيام الجمعة من الساعة التاسعة صباحا حتى الخامسة بعد الظهر

سيتم اختيار اصوات الاصوات والخامات المتميزة لدمجهم ضمن أطر مناسبة
تسجيل أغاني وتدريب مع جوقة المعهد الموسيقي
للاتصال والتسجيل: 0574666167 أو 0544666165